هجرة الطيور لاحظ الإنسان منذ بدء التاريخ اختفاء الطيور في فصل الشتاء فكان الاعتقاد السائد حتى بدايات القرن التاسع عشر الميلادي أن هذه المخلوقات الجميلة تخلد إلى النوم خلال فصل الشتاء وتعاود الظهور في فصل الربيع قبل أن يدرك أن للطيور هجرتين : الأولى في فصل الخريف والثانية في فصل الربيع .
في كل عام وفي نفس الموعد تنطلق ملايين الطيور – وخاصة في نصف الكرة الشمالي – في رحلة شاقة وطويلة متجهة إلى نصف الكرة الجنوبي ، فقارات النصف الشمالي ( أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية ) تشهد هذه الهجرة التي تنتهي بعد أن تتجاوز الطيور خط الاستواء ؛ غالباً بأمريكا الجنوبية وجنوب أفريقيا ، فإذا حل الربيع عادت أدراجها برحلة معاكسة إلى مواطنها الأصلية من أجل التزاوج وإنتاج الفراخ .
لم يشغل بال علماء الطيور مثل ما شغلتهم هذه الهجرة الغريبة ؛ إذ إن الطيور حافظت على هجرتها منذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا . فانبرى العلماء للإجابة على أسئلة مثل : كيف تعرف الطيور حلول وقت الهجرة ؟ ولماذا تهاجر الطيور ؟ وإلى أين تذهب ؟ وكيف تعرف طريقها ؟ إلخ من الأسئلة التي لا تزال سراً من الأسرار يكتنفه الكثير من الغموض .
لقد لاحظ هؤلاء العلماء أن الطيور وحتى التي لم تهاجر أبداً ( الفراخ ) عندما يحين وقت الهجرة معتمدة على ما يعرف بالساعة البيولوجية التي زودها الخالق عز وجل بها تنطلق في أسراب ناحية الجنوب علماً بأنها لم يسبق أن مرت بهذه التجربة مما جعلهم يعتقدون أن هناك جينات ورثتها من الآباء تحدوها إلى القيام بهذه الرحلة .
قبل موعد الهجرة تقوم الطيور بكافة أنواعها بتبديل الريش فيتساقط القديم ويحل بدلاً منه ريش جديد غير متقصف أو متكسر ، كما أن الطيور تنفتح شهيتها – قبل الهجرة – فتقبل على الغذاء بشكل غير معتاد وبنهم عجيب مما يزيد في وزنها إلى الضعف في بعض الطيور ، تخزن الكثير من الدهون ، هذه الدهون تتحول إلى طاقة تواجه بها مشاق الرحلة الطويلة جداً ؛ لذلك فإن الطائر الضعيف لا يهاجر ، وإن هاجر فإنه ينفق قبل محطة الوصول . عندما يبدأ طول النهار بالتغير فإن الطيور تتأثر بذلك ، ولعل أهم تأثير في هذا الجانب هو الغدد التي تفرز الدهون في جسم الطائر مكونة طبقة دهنية تغطي جسمه ، كما أن تبدل الضوء يولد حافزاً للهجرة ، وهذا يفسر سر انتظام الهجرة في وقت دقيق ومحدد من كل عام
الكثير من الطيور تهاجر ليلاً والبعض الآخر مثل الجوارح تهاجر نهاراً ، وتختلف المسافة والسرعة من طائر إلى آخر ؛ فبعض الطيور تقطع مسافة 2700 كيلومتر في طيران مستمر يستغرق 60 ساعة ( يومين ونصف ) ، وبعض الطيور تقطع مسافة 14.000 كيلومتر ، والبعض الآخر يسافر لمسافة تصل إلى 16.000 كيلومتر ، أما أطول رحلة سجلت للطيور فهي 22.000 كيلومتر من المحيط المتجمد الشمالي إلى جنوب أفريقيا ، والغريب في هذا الأمر أن الطيور التي تكون مناطق تزاوجها أبعد شمالاً تكون محطة الوصول الأبعد جنوباً والعكس صحيح . كما أن الارتفاع والسرعة تختلف من طائر إلى آخر ؛ فمنها ما يحلق على ارتفاع 950 متراً و1600 متر و 4.000 متر وقد تحلق على ارتفاع 6.000 متر ، وبسرعات تتفاوت بين 45 إلى 100 كيلومتر في الساعة . لماذا تهاجر الطيور : قد يتساءل البعض : ما الذي يدفع الطيور إلى أن تعرض نفسها إلى مخاطر هذه الرحلة الشاقة والطويلة بين منطقة التزاوج ( شمالاً ) ومنطقة المشتى ( جنوباً ) ؟ طبعاً لا يمكن أن نغفل أن الطيور تتمتع بجو مناسب في كلا الحالتين ، فالجو المعتدل شمالاً في الربيع والصيف ، وجنوباً في الخريف والشتاء قد يكون أحد الدوافع ، ولكن الكثير يعتقد أيضاً أن تساقط الثلوج والجليد في الشمال والذي لا يمكن أن تتحمله الطيور هو أحد الدوافع الأخرى لهذه الهجرة ، علماً بأن السبب الأخير ليس الدافع دائماً إلى الهجرة ؛ فقد تم احتجاز بعض الطيور قبل أن تقوم بهجرتها المعتادة وإبقائها في نفس المكان مع توفير الغذاء المناسب فكانت النتيجة أنها استطاعت مقاومة البرد والصقيع القارص . لعل أهم دوافع الهجرة هو توفر الغذاء من حشرات وحبوب وفواكه للطيور ، ثم إذا أدركنا قصر النهار في الشتاء الذي لا يترك فرصة للطيور للبحث عن الغذاء أدركنا سبب هجرة الطيور جنوباً ، أما العودة إلى الشمال في فصل الربيع فهو من أجل التزاوج والتكاثر ؛ حيث أن النهار يبدأ بالطول في نصف الكرة الشمالي ابتداء من فصل الربيع ويبلغ ذروته في الصيف وهذا الطول في النهار يسمح للطيور بأن تقوم بتغذية أنفسها وفراخها أطول فترة ممكنة .
كيف تهتدي الطيور أثناء هجرتها : إن أكثر ما يثير الانتباه في الهجرة هو عودة الطيور المهاجرة إلى المكان الذي قضت فيه فترة التفريخ أو الشتاء بعد سفرة طويلة تمتد إلى الآلاف من الكيلومترات فوق الجبال والصحارى والمسطحات المائية الشاسعة . هنا لا أشير فقط إلى معرفة الاتجاه ولكن أيضاً معرفة النقطة ذاتها ، فبعض الطيور يعود إلى نفس العش الذي فرخ فيه العام الماضي !! عملية الاهتداء ومعرفة الطريق ومن ثم معرفة النقطة الهدف سر من أسرار الهجرة لم يتم الكشف عنه حتى يومنا هذا على الرغم من المحاولات المستمرة في وضع فرضيات ومن ثم القيام بالتجربة والمراقبة التي ترصد الطيور ابتداءً بعملية التحجيل وهي وضع حجل أو خاتم معدني في ساق الطائر الصغير في عشه ومن ثم مراقبة محطات الوصول لهذه الطيور وانتهاءً بأجهزة الكمبيوتر وقواعد البيانات ، ومؤخراً حتى وكالة الفضاء الأمريكية ( ناسا ) تقدم خدماتها للمراقبين عن طريق رصد الطيور المهاجرة بواسطة الرادارات المتقدمة . اعتقد البعض أن الطيور تعرف طريقها ومن ثم تحفظه في ذاكرتها بالتعرف على الجبال والأنهار والأودية والمياه التي تمر بها خلال الرحلة . ولكن يدحض هذا الرأي أن الكثير من الطيور تهاجر ليلاً وفي ليال يغيب عنها القمر ، كما أن الطيور التي لم تمارس تجربة الهجرة سابقاً تسلك نفس الطريق دون مساعدة الكبار . أما الرأي الآخر فقد قدم فكرة تقوم على أن الطيور تعرف مسالكها عن طريق الشمس نهاراً والنجوم ليلاً ، ولكن في بعض الأحيان يكون الجو غائماً أو ممطراً وعاصفاً شديد العواصف أو كثير الضباب ولا يتأتى للطيور مراقبة النجوم والشمس . هناك من يرى أن الطيور الأكثر خبرة هي التي تقود السرب أثناء الهجرة حتى تستفيد البقية ذوات الخبرة القليلة من هذه التجربة . هذا الرأي وإن كان مقبولاً مع طيور تعيش بطريقة أسرية أو مجموعة واحدة مثل الكرك والوز الكندي ، إلا أنها لا تنطبق على طيور أخرى تهاجر فيها الكبار قبل الصغار أو الذكور قبل الإناث . أما آخر هذه النظريات فهي تتحدث عن وجود نسيج صغير جداً في مخ الطائر لا يزيد عن نصف مليمتر مربع له القدرة على التأثر وتحسس المجال المغناطيسي للكرة الأرضية الذي يزداد كلما اقتربنا من القطبين ويقل كلما اقتربنا من خط الاستواء ، ومن أجل اثبات هذه الفرضية قاموا بوضع بعض المؤثرات الصغيرة التي تعكس التيار المغناطيسي فوق رأس الطيور ومن ثم أطلقوا الطيور فكانت النتيجة أنها اتجهت عكس الطريق الصحيح . لعل النقد الذي وجه لهذه النظرية والقائل : هل فعلاً أن الطائر بما وهبه الله من معرفة المجال المغناطيسي يستطيع أن يميز أو يدرك الفوارق الدقيقة جداً التي تطرأ على المجال المغناطيسي للكرة الأرضية ؟ مثل هذا السؤال قد يحتاج إلى المزيد من البحث خاصة إذا عرفنا أن انحراف الطائر بمقدار درجة واحدة فقط يبعده مئات بل آلاف الكيلومترات عن الهدف . المؤكد أن الآلية لدى الطيور لمعرفة طريقها - وهي بالمناسبة لا تسلك طريقاً مستقيما ؛ بل قد يكون متعرجاً أو منحنياً في بعض الأحيان – تظل مبهمة . قد يكون بعض الطيور يستخدم آلية من الآليات أعلاه ، والبعض الآخر قد يستخدمها جميعاً .